الفتاوى الذهبية في الرقى الشرعية
مس الجن وعلاجه
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي خلق الجن والإنس ليعبدوه، وشرع لهم ما تقتضيه حكمته ليجازيهم بما عملوه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وكان الله على كل شيء قديرًا، وأشهد أن محمدًا اسم> عبده ورسوله، المبعوث إلى الإنس والجن بشيرًا ونذيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد قال الله -تعالى- رسم> وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ قرآن> رسم> .
والجن عالم غيبي خلقوا من نار، وكان خلقهم قبل خلق الإنس، كما قال الله -تعالى- رسم> وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ قرآن> رسم> ومكلفون، يوجه إليهم أمر الله -تعالى- ونهيه، فمنهم المؤمن، ومنهم الكافر، ومنهم المطيع ومنهم العاصي، قال الله -تعالى- عنهم: رسم> وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا قرآن> رسم> وقال: رسم> وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا قرآن> رسم> أي: جماعات متفرقة وأهواء، كما يكون ذلك في الإنس، فالكافر منهم يدخل النار بالإجماع، والمؤمن يدخل كالإنس، قال الله -تعالى- رسم> وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ قرآن> رسم> والظلم بينهم وبين الإنس مُحرم، كما هو بين الآدميين؛ لقوله -تعالى- في الحديث القدسي: رسم> يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا متن_ح> رسم> رواه مسلم اسم> حديث> .
ومع هذا فهم يعتدون على الإنس أحيانًا، كما يعتدي الإنس عليهم أحيانا، فمن عدوان الإنس عليهم أن يستجمر الإنسان بعظم أو روث، ففي صحيح مسلم اسم> عن ابن مسعود اسم> -رضي الله عنه- أن الجن سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- الزاد فقال: رسم> لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم، أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علف لدوابكم متن_ح> رسم> قال النبي -صلى الله عليه وسلم- رسم> فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم متن_ح> رسم> .
ومن عدوان الجن على الإنس رأس> أنهم يتسلطون عليهم بالوسوسة التي يلقونها في قلوبهم؛ ولهذا أمر الله -تعالى- بالتعوذ من ذلك فقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ قرآن> رسم> وتأمل كيف قال الله -تعالى- رسم> مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ قرآن> رسم> فبدأ بذكر الجن؛ لأن وسوستهم أعظم، ووصولهم إلى الإنس أخفى.
فإن قلت: كيف يصلون إلى صدور الناس فيوسوسون فيها?
فاستمع الجواب من محمد اسم> رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال لرجلين من الأنصار: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا - أو قال: شيئًا وفي رواية: رسم> يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم متن_ح> رسم> .
ومن عدوان الجن على الإنس أنهم يخيفونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب، ولا سيما حين يلتجئ الإنس إليهم، ويستجيرون بهم، قال الله -تعالى- رسم> وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا قرآن> رسم> أي: خوفًا وإرهابًا وذعرًا.
ومن عدوان الجن على الإنس أن الجني يصرع الإنسي فيطرحه، ويدعه يضطرب حتى يغمى عليه، وربما قاده إلى ما فيه هلاكه: من إلقائه في حفرة، أو ماء يغرقه، أو نار تحرقه، وقد شبه الله -تعالى- آكلي الربا عند قيامهم من قبورهم بالمصروع الذي يتخبطه الشيطان، قال الله -تعالى- رسم> الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ قرآن> رسم> قال ابن جرير اسم> وهو الذي يتخبطه فيصرعه، وقال ابن كثير اسم> إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له، وقال البغوي اسم> يتخبطه الشيطان أي: يصرعه، ومعناه أن آكل الربا يبعث يوم القيامة كمثل المصروع.
وروى الإمام أحمد اسم> في مسنده (4\171- 172)، عن يعلى بن مرة اسم> -رضي الله عنه- رسم> أن امرأة أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- بابن لها قد أصابه لمم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- اخرج عدو الله، أنا رسول الله، قال: فبرأ الصبي، فأهدت أمه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كبشين وشيئًا من أقط وسمن، فأخذ: النبي -صلى الله عليه وسلم- الأقط والسمن وأحد الكبشين، ورد عليها الآخر متن_ح> رسم> وإسناده ثقات، وله طرق قال عنها ابن كثير اسم> في تاريخه (البداية والنهاية): فهذه طرق جيدة متعددة، تفيد غلبة الظن أو القطع عند المتبحرين أن يعلى بن مرة اسم> حدث بهذه القصة في الجملة.
قال ابن القيم اسم> -يرحمه الله تعالى، وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية اسم> البارزين - في كتابه (زاد المعاد) (4\ 66): الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه، وأما صرع الأرواح فأئمتهم (أي الأطباء) وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه، وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد الزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحسّ والوجود شاهدان به، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم.
أيها الناس إن للتخلص من هذا النوع من الصرع أمرين: وقاية، وعلاج.
فأما الوقاية فتكون بقراءة الأوراد الشرعية من كتاب الله -تعالى- وصحيح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبقوة النفس، وعدم الجريان وراء الوساوس والتخيلات التي لا حقيقة لها؛ فإن جريان الإنسان وراء الوساوس والأوهام يؤدي إلى أن تتعاظم هذه الأوهام والوساوس حتى تكون حقيقة.
وأما العلاج -أعني علاج صرع الأرواح رأس> - فقد اعترف كبار الأطباء أن الأدوية الطبيعية لا تؤثر فيه، وعلاجه بالدعاء والقراءة والموعظة، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية اسم> يعالج بقراءة آية الكرسي والمعوذتين، وكثيرًا ما يقرأ في أذن المصروع: رسم> أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ قرآن> رسم> قال تلميذه ابن القيم اسم> حدثني أنه قرأ مرة هذه الآية في أذن المصروع فقالت الروح: نعم ومد بها صوته: قال: فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يدي من الضرب، وفي أثناء ذلك قالت: أنا أحبه. فقلت لها: هو لا يحبك. قالت: أنا أريد أن أحج به. فقلت لها: هو لا يريد أن يحج معك. قالت: أنا أدعه كرامة لك. قلت: لا، ولكن طاعة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم. قالت: فأنا أخرج. فقعد المصروع يلتفت يمينًا وشمالا، وقال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ هذا كلام ابن القيم اسم> -يرحمه الله- عن شيخه.
وقال ابن مفلح اسم> في كتاب: (الفروع)، وهو من تلاميذ شيخ الإسلام أيضًا: كان شيخنا إذا أتي بالمصروع وَعظَ مَن صرعه، وأمره ونهاه، فإن انتهى وفارق المصروع أخذ عليه العهد أن لا يعود، وإن لم يأتمر ولم ينته ولم يفارق ضربه حتى يفارقه، والضرب في الظاهر على المصروع، إنما يقع في الحقيقة على من صرعه. وأرسل الإمام أحمد اسم> إلى مصروع ففارقه الصارع، فلما مات أحمد عاد إليه.
وبهذا تبين أن صرع الجن للإنس ثابت بمقتضى دلالة الكتاب والسنة والواقع، وأنكر ذلك المعتزلة، ولولا ما أثير حول هذه المسألة من بلبلة وجدال أدى إلى جعل كتاب الله -تعالى- دالًّا على معان تخيلية لا حقيقة لها، ولولا أن إنكار هذا يستلزم تسفيه أئمتنا وعلمائنا من أهل السنة، أو تكذيبهم- أقول: لولا هذا وهذا ما تكلمت في هذه المسألة؛ لأنها من الأمور المعلومة بالحس والمشاهدة، وما كان معلومًا بالحس والمشاهدة لا يحتاج إلى دليل؛ لأن الأمور الحسية دليل بنفسها وإنكارها مكابرة أو سفسطة، فلا تخدعوا أنفسكم ولا تتعجلوا، واستعيذوا بالله من شرور خلقه من الجن والإنس، واستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور التواب الرحيم .
مسألة>